ما هو الخلق الأرقى بين الأخلاق؟

وهل هناك معايير له؟

لماذا قامت مؤسسات عالمية للتأكد منه؟

فما هو؟

إنه النزاهة -أيها السادة-، ويسمى اصطلاحاً "الشفافية"، وقد جعل الإسلام له المكانة الأولى حين سماه: "الورع"!

فما هو؟ وكيف تعامل رسول الله صلى الله عليه وسلم مع هذا الخلق؟

ما هو الورع، وما هي النزاهة؟

نعلم جميعا أن الكذب حرام، والفواحش حرام، ولعل أهمها اليوم المال الحرام الذي يكاد يكون السبب الرئيس وراء معظم الشرور التي يشهدها العالم اليوم؛ فقديما كان يقال عند وقوع الجرائم: (فتش عن المرأة!) ولكني اليوم أقول: (فتش عن المال!)

وكثرة الأحكام الواضحة الدلالة في بيان الحل والحرمة ولكن هناك أمر مشتبهات وغائبات عن كثير ممن لايتحرى دقائق الأمور فيستهين بها غير متحرٍ لصغائرها ، وحتى أضرب لذلك أمثلة دعونا ندخل عالم المال من أدنى المستويات البسيطة وصولاً إلى كبائر الأعمال:

الموظف في دائرته: بعض الموظفين لايتورع ولايتنزه عن استخدام هاتفه في أثناء العمل، وهو وقت تم أخذ الأجرة عليه! لايتورع ولايتنزه عن استخدام أدوات العمل في غير ما خُصصت له من تنقلات أو أدوات قرطاسية! البعض يظن أن هذا بسيط لايجب الحديث عنه!

إذاً.. تعالوا إلى سيدنا رسول الله في مشاهد أربع لايتخيلها أحد تعليماً للنزاهة والورع المنقطع النظير:

 

المشهد الأول: دقة النبي صلى الله عليه وسلم في إعطاء المثال لحرام المال:

لَمَّا قَفَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ غَزْوَةِ حُنَيْنٍ ، فَكَانَ هَمُّهُ النَّاسُ يَسْأَلُونَهُ ، فَأَحَاطَتْ بِهِ النَّاقَةُ ، فَخَطِفَتْ شَجَرَةٌ رِدَاءَهُ ، فَقَالَ : " رُدُّوا عَلَيَّ رِدَائِي أَتَخْشَوْنَ عَلَيَّ الْبُخْلَ لَوْ أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيَّ نَعَمًا مِثْلَ تَمْرِ تِهَامَةَ لَقَسَمْتُهَا بَيْنَكُمْ ، ثُمَّ لا تَجِدُونِي بَخِيلا وَلا جَبَانًا وَلا كَذَّابًا ، ثُمَّ أَخَذَ وَبَرَةً مِنْ ذِرْوَةِ سَنَامِ بَعِيرِهِ ، فَقَالَ : مَالِي مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ ، وَلا مِثْلُ هَذِهِ ، إِلا الْخُمُسَ ، وَهُو مَرْدُودٌ عَلَيْكُمْ رُدُّوا الْخَيْطَ وَالْمِخْيَطَ ، فَإِنَّ الْغُلُولَ عَارٌ وَشَنَارٌ " .( صحيح بمجموع طرقه وله ألفاظ كثيرة)

 النبي عليه الصلاة والسلام يريد أن يعطي مثالاً لحرمة أخذ أقل القليل من المال الحرام، فمن شدة ورعه ونزاهته يأخذ مثالاً لوبرة من سنام بعيره وليس من بعير أحد؛ حتى لا يقول أحد له: أخذت شعرة من جملي دون إذني!

أرأيتم ورعاً ونزاهة فوق ذلك؟؟

ومن يفعل ذلك يأمر برد الخيط!

 

مشهد آخر لايقل روعة عن سابقه:

 

المشهد الثاني :الورع في التعويض عن الترويع، وثمرته إسلام يهودي:

قال زيد بن سعنه: بايَعني صلَّى اللهُ عليه وسلَّم (قبل اسلامه)، فلمَّا كان قبْلَ محلِّ الأجلِ بيومينِ أو ثلاثةٍ، أخَذْتُ بمجامعِ قميصِه ونظَرْتُ إليه بوجهٍ غليظٍ ثمَّ قُلْتُ: ألا تقضيني يا محمَّدُ حقِّي؟ فواللهِ ما علِمْتُكم بني عبدِ المطَّلبِ -قال: ونظَرْتُ إلى عمرَ بنِ الخطَّابِ وعيناه تدورانِ في وجهِه كالفلَكِ المستديرِ ثمَّ رماني ببصرِه وقال: أيْ عدوَّ اللهِ أتقولُ لرسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ما أسمَعُ وتفعَلُ به ما أرى ؟ فوالَّذي بعَثه بالحقِّ لولا ما أُحاذِرُ فَوْتَه لضرَبْتُ بسيفي هذا عنقَك ورسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ينظُرُ إلى عمرَ في سكونٍ وتُؤدةٍ ثمَّ قال: ( إنَّا كنَّا أحوجَ إلى غيرِ هذا منك يا عمرُ أنْ تأمُرَني بحُسنِ الأداءِ وتأمُرَه بحُسنِ التِّباعةِ اذهَبْ به يا عمرُ فاقضِه حقَّه وزِدْه عشرينَ صاعًا مِن غير مكانَ ما رُعْتَه) فقُلْتُ: ما هذه الزِّيادةُ؟ قال: أمَرني رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنْ أزيدَك مكانَ ما رُعْتُك.. قال فأُشهِدُك يا عمرُ أنِّي قد رضيتُ باللهِ ربًّا وبالإسلامِ دينًا وبمحمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم نبيًّا، وأُشهِدُك أنَّ شَطْرَ مالي - فإنِّي أكثرُها مالًا - صدقةٌ على أمَّةِ محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم! [صحيح ابن حبان]

أرأيتم ورعاً ونزاهة أعظم من هذا ...

أذكر هذا ويجول في خاطري آلاف يماطلون في حقوق الناس وأموالهم مع إهانتهم وربما تهديدهم ... ليسمع ذلك أولئك المماطلون وليعلموا أن أوزار الغني المماطل كثيرة كبيرة.

 

المشهد الثالث : تحريم سرقة ظل الحيوان!

يتفاخر العالم باحترام حقوق الحيوان، ولكن الإسلام فاق ذلك بورع النبي صلوات الله عليه ونزاهته في أن يتعدى على ملكية حيوان، والله إنها لعجيبة! ما سمعَت بها أذن قط!

قال رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: (إنَّ اللهَ حرَّم مكةَ ، ... ولا يُعضَدُ شجرُها ، ولا يُنَفَّرُ صيدُها ..) . قال عِكرِمَةُ : هل تدري ما يُنَفَّرُ صيدُها؟ هو أن تُنَحِّيَه منَ الظِّلِّ وتَنزِلَ مكانَه... [صحيح البخاري]

حرام أن تسرق ظل الحيوان، واليوم نرى من يسرق أمماً من أوطانها...!

والله الذي لا إله إلا هو لن تجد البشرية دعوة للنزاهة والورع أرقى من هذا! أليس كذلك؟

 

المشهد الرابع : ورعه في مال الأطفال:

يقول أبو هريرة رضي الله عنه: أخذ الحسن بن علي تمرة من تمر الصدقة فجعلها في فيه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كخ كخ، ارم بها، أما علمت أنا لا نأكل الصدقة؟) [صحيح مسلم]

تصوروا يا سادة، غلام صغير غير مكلف، وهو حفيدٌ غالٍ جداً على قلب الجد والحاني سيدنا رسول الله، ومع ذلك يعلمه الورع والنزاهة في شق تمرة.. قطعة سكر... فهل نعلم أبناءنا هذا؟ وهل من نراهم اليوم من الفاسدين تعلموا هذا في بيوتهم؟

 وأختم لهذه المشاهد بالقانون القرآني الذي يعلم أن النزاهة، والتي هي: (تحرّي دقائق الأمور وسؤال الشارع عن حكمها قبل القيام بها)، وذلك من خلال القانون العام: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزلزلة: 7 - 8]

 

السؤال الآن: كيف نطبق ذلك؟

إن الخطوات العملية لتطبيق هذ الخلق الأرقى يكون كما يأتي:

أ- السؤال عن كل فعل تريد القيام به وخاصة في كسب المال وإنفاقه، من خلال عرضه على العلماء الاقتصاديين المتخصصين، أو التواصل عبر المواقع المتخصصة للإفتاء.

ب- التفقه في أحكام العمل الذي تقوم به (فقه المهنة قبل المهنة)، وقد قال سيدنا عمر رضي الله عنه: (لا يدخل سوقنا إلا من تفقه، وإلا أكل الربا شاء أم أبى!).

ج- التعامل مع الورعين ومخالطتهم.

وهنا تساؤل هام للآباء: عندما يأتيك خاطب هل تسال عن مصدر ماله قبل السؤال كم ماله؟ وهل إذا علمت أن ماله حرام أو مشبوه فهل تعطيه ابنتك؟

 

ختاماً:

إن الورع والنزاهة خلقٌ راقٍ لا ينشده إلا من يسعى لقبول دعائه وجوار نبيه صلى الله عليه وسلم، فماذا لو سعينا نحوه وجعلنا بيوتنا وعائلاتنا ومجتمعنا يمارسونه ويطبقونه، وماذا لو تجاهلنا هذا الخلق الراقي فهل سنسعد بحلم الحياة الكريمة؟!

الأمر بين أيديكم فاصنعوا مستقبل الأمة الآن ...